الكلمة معلومة وتحشيد – الحقائق الظالمة -1
صائب خليل
للكلمة بعدان، أو خاصيتان: البعد المعلوماتي والبعد التحشيدي.
البعد المعلوماتي هو بعد حيادي يقدم لك معلومة أما تكون حقيقة أو مزيفة، أما البعد التحشيدي فهو التوظيف السياسي للكلمة، فيمكن لمعلومتين متشابهتين وحقيقيتين، أن توظفا لتحفيز وتحشيد المستمعين باتجاهين مختلفين.
لنأخذ موضوع داعش. القول ان “كل الدواعش سنة” هو حقيقة، وكذلك القول: “حديثة حاربت داعش وقدمت الكثير من الشهداء”، هو حقيقة أيضا. أي ان العبارتين متشابهتان في بعدهما المعلوماتي، كونهما حقيقتين. أما في التوظيف كمحفز للمستمع، فهما متناقضتان تماما. الأولى تحشد الآخرين ضد السنة، وتوحي لمستمعها ان التخلص من السنة هو الطريق للتخلص من داعش، فتؤكد طائفية المعركة. والثانية على العكس، تحشد الجميع، سنة وشيعة، في جبهة واحدة ضحية لداعش، وتدعو للتفكير في البحث عن أساس آخر لتقسيم ساحة المعركة مع داعش غير الحدود الطائفية.
يحرص من يريد إقناع مستمعيه أن تكون كلماته صحيحة معلوماتيا، فيتجنب قدر الإمكان، الكذب والتزييف لأن هذا يهدد مصداقيته في حال اكتشافه، وفشله بتحشيد قرائه خلف الموقف الذي يسعى لترويجه. لذلك هو يحاول قدر الإمكان ان يكتفي باختيار “الحقائق” المناسبة لما يريده، وسيشعر إنه في مأمن حتى لو كان إنتقائياً بشكل واضح، فما يقوله يبقى حقيقياً بإمكانه الدفاع عنه ولا توجد إمكانية للومه وتسفيه موقفه. فمهما كان الاتجاه الذي تحشد له تلك الكلمة مرفوضا، يستطيع مروجها أن يدعي أنه انما يفعل ذلك من أجل “الحقيقة” وحدها، وحب الحقيقة وحدها. والحقيقة ان هناك كلمة محددة بالإنكليزية لاستعمال الحقائق من اجل الخداع هي: paltering
مثلاً، لا تستطيع ان تلوم من يقول “كل الدواعش سنة”، لأنها حقيقة، حتى لو كنت واثقاً من إن توظيفه السياسي لها غير سليم. فهو قد اختار من بين الحقائق، تلك التي تؤكد طائفية المعركة، وقد لا تكون المعركة طائفية في حقيقتها العملية، أو ان الطائفية فيها طابع عرضي فرضته طبيعة مشروع التقسيم المراد للمنطقة، وأن للمعركة أبعاد أكبر أهمية منه. في هذه الحالة يكون رفع الصوت بهذه “الحقيقة” تشويشاً على الحقائق الأهم. وبالتالي فإن تلك الحقيقة “تظلم” الحقائق الأخرى وتأخذ حجماً لا تستحقه وتدفع الناس الى الموقف الخطأ.
يمكننا ان نأخذ امثلة أخرى على “حقائق” ظالمة ان أعطيت أكبر من حجمها، فحين يقال ان داعش تجد المكان الآمن في المناطق السنية لأن أهلها يمثلون “حواضن” طبيعية لداعش، يبدو كـ “حقيقة” معقولة جدا، خاصة لمن كان يسكن في الجنوب، بعيداً عن تلك المناطق. لكن حين نستخدم نفس المنطق لنقول: أن جوكرية تشرين تجد المكان الآمن في المناطق الشيعية لان أهلها يمثلون “حواضن” طبيعية لهم، سيكتشف هذا الجنوبي أن في الحقيقة السابقة خلل ما، وانها غير دقيقة، ويبحث عن تفسير آخر لتواجد الجوكرية في مدن الجنوب. وتستدعي الأمانة هنا ان يبدأ بالشك في “الحقيقة” الأولى عن حواضن داعش في المناطق السنية، لان المنطق الذي أسست عليه هو نفسه الذي اكتشف انه مختل.
نفس الأمر عن فرضيات منتشرة تبدو كـ “حقائق” مثل: “شيعة العراق لا يصلحون للحكم لانهم لم يقدموا اية حكومة جيدة” او “الشيعة لا يقدمون الا حكومات عميلة للأجنبي” أو “كل الحكومات العراقية الشيعية شديدة الفساد”. كلها “حقائق”، لكن ربطها بـ “الشيعة” لا دليل عليه في الواقع، لأن الظروف التي حكم فيها “الشيعة” كانت تحت الاحتلال. لا يوجد دليل او مؤشر عقائدي او جيني لدى الشيعة يفسر هذه “الحقائق”، لذلك من حقنا أن نشك بأنها حقائق “ظالمة” اخذت غير حجمها، واستنتاجات غير صحيحة. فقد يكون الصحيح هو: “لا احد يستطيع ان يحكم جيدا في عراق تحتله اميركا وتسيطر على مقاليد الحكم فيه” و “إذا حكم السنة أو الشيعة في بلد تسيطر عليه اميركا فسيجبرون على وضع حكومات فاسدة وعميلة”..
هذا الاستنتاج او هذه المراجعة تتيح لنا ان نبحث عن تفسير آخر لما يجري بدلا من الاستنتاج المتسرع والسهل والذي تشجعه كل القنوات الإعلامية التي نعرف انها تم تأسيسها من قبل الاحتلال خصيصا لتضليل الناس في استنتاجاتهم ولإبعادهم عن اكتشاف دور الاحتلال في التدمير الممنهج للبلد.
وطبيعي أن هؤلاء الإعلاميين تم تدريبهم ويحصلون على النصيحة من اكبر وارقى المؤسسات الإعلامية في كيفية تحقيق ذلك واستغلال “الحقائق” (الظالمة) المناسبة قدر الإمكان والابتعاد عن الكذب المفضوح قدر الإمكان، مما يجعل اكتشافهم، فوق قدرة المواطن الاعتيادي، الذي تقدم له التفسيرات المناسبة للاحتلال، جاهزة وبلا حاجة للبحث والتفكير. فليست كل الفرضيات الكاذبة سخيفة وسهلة التفنيد مثل أن ايران تدعم داعش أو انها أنشأت مزرعة حمير لتبيع حليبها للعراق.
إذن، رغم ان من يريد تضليل الناس عن الرؤية الصحيحة، كثيرا ما يلجأ إلى الكذب، فأن هناك إمكانية كبيرة لأجهزة الاعلام المتطورة للاكتفاء غالبا بـ “الحقائق” الظالمة (او ما يسمى: حق اريد به باطل) لتحقيق هذا التضليل بإعطائها شكلا مناسبا او حجما اكبر او اصغر من حجمها، او انتقاء حقائق معينة مناسبة للتحشيد الذي يريدون.
ملخص ما جاء في المقالة، أن للكلمة بعدين دائما، البعد المعلوماتي (حقيقة او كذب) والبعد التحشيدي (السياسي، الموقف) وهما مستقلان الى حد بعيد. ولأن الكذب مرفوض اجتماعيا ويهدد مصداقية الإعلامي، يسعى من يريد الترويج لموقف معين الى الاكتفاء بـ “الحقائق” المناسبة، ثم يقوم بصياغتها بشكل يجعلها “حقائق ظالمة”، ويستنتج منها استنتاجات غير سليمة. هذا الأسلوب يجعل مهمة المستمع في اكتشاف الخطأ، وإيجاد طريقه الصحيح بين المتاهات أمر عسير، فيتركه للإعلام المؤسس لخداعه، والذي يستغل ذلك ليوجه له التحشيد الذي يريد.