التظاهرات – ملف الأسئلة الأساسية
صائب خليل
الآن وقد انتهت مرحلة التظاهرات، ربما صار بالإمكان ان نراجع ما حدث فيها وما هي دروسها. وأؤكد هنا على أن هذا ممكن فقط بعد ان هدأت النفوس و”تملمص” العقل من سلطة جنون العاطفة التي تصاحب مثل هذه الفعاليات دائما. ولإثبات ذلك، يكفي ان أقول إني في بدايات التظاهرات كتبت: اننا بحاجة لدعم التظاهرات على ان نبقي عيننا مفتوحة على مسيرتها واختراقها، والانتباه لتجارب الربيع العربي المدمرة. كانت هذه الدعوة المتواضعة للعقل، كافية لإثارة اثنين من أصدقائي الذين صاروا في خندق التظاهرات، لا لكي يردا بتعليق، بل ان يكتبا مقالتين يخصصانها للسخرية من “إبقاء العين مفتوحة”، ووصفني أحدهما باستخفاف بـ “شارلوك هولمز”، كما طُلِب مني حذف مقالة لي (بهذا الإتجاه) على صفحة “الماركسيين العراقيين” وإبلاغي بعدم ترحيب الصفحة بأية مقالات “معادية للتظاهرات”!
لم يكن ذلك غريبا، فقد كان الشعار غير المعلن: “كل شيء من اجل المعركة”، وفي مثل هذا الجو فأن “إبقاء العين مفتوحة” عمل عدائي يجب ان يجابه بالسخرية والحظر! ويجب ان اعترف انها كانت استراتيجية فعالة ردعتني عن اكمال المقالة بالجزء الثاني الذي كنت انوي وضع علامات طريق وتنبيه مبكر لأي زلل لمنع تطوره، لإحساس عميق بسيطرة الجنون وعدم الجدوى. كذلك فشلت محاولاتي اللاحقة لجمع الأطراف الوطنية التي مزقها الموقف من التظاهرات شر تمزيق، فاق ما فعلته الطائفية. الفشل كان من نصيبي أيضا فقد كان الأدرينالين يحكم طرفي المعادلة: المتحمس الشديد الذي يرى فيها ثورة الأمل والمستقبل الباهر، من جهة، والقلق الشديد من قبل الآخر على مصير بلده من الجهة الأخرى، قادراً على منع سماع أي تفكير!
إذن استعاد العقل اليوم بعض مكانته التي سحقت تحت أحذية الحماس، وصار بالإمكان طرح التساؤلات، ليس للانتقام والتشفي طبعا، فالهزيمة كانت هزيمة لكل العراق بنتائجها، وليس لمهزوم ان يتشفى، لكن لإلقاء نظرة الى الوراء لفهم بعض ما جرى واستنتاج بعض الدروس مقابل ما دفعناه من أثمان، اشدها تنصيب عميل سفارة لم يسبق للعراق ان حكمه شخص بانحطاط مستواه العقلي والتعليمي، دع عنك الأخلاقي، ومازالت السفارة حتى اليوم تمرر من خلاله وبنشاط، قرارات تدمير العراق الذي يبدو انه أصيب بالشلل.
دعونا نراجع الأمر بشكل أسئلة أساسية محددة في هذه الحلقة، لإلقاء نظرة على الإشكالات التي كانت للتظاهرات وسوء الفهم الذي سيطر على (الشرفاء من) المشاركين بها، وفي الجزء الثاني من المقالة سنطرح سؤالا خطيرا يشرح حقيقة التظاهرات والساحة التي قامت عليها. الأسئلة الأساسية هي:
هل يبرر الوضع السيء في البلد، اية تظاهرات كانت؟
الحجة الأساسية لداعمي التظاهرات كانت هي ان الفساد مستشر في البلاد، وان التظاهرات هي الرد الطبيعي والأمل الوحيد لتغيير الوضع، وبالتالي فأن أي اعتراض عليها هو دعم للنظام الفاسد والفساد الخ.
هذا يقودنا الى السؤال الثاني الذي تم منعه اثناء التظاهرات وهو:
هل يمكن ان يصبح الوضع أكثر سوءاً مما هو عليه؟
المفروض ان تجارب الثورات الملونة في الوطن العربي وفي أوروبا الشرقية والعالم كله، (ومعظمها قد قام بوجه نظام فاسد بدرجة او بأخرى) قد أجاب عن هذا السؤال وأنهي هذا المنطق البسيط وأوضح ان من الممكن ان تقود التظاهرات ضد نظام فاسد، إلى ما هو أفسد منه واشد عمالة للأجنبي! لكن الإعلام المشبوه الذي دعم التظاهرات هب لمنع هذا التساؤل بتقديم إجابة جاهزة بأن: لا شيء يمكن ان يصبح أسوأ، واستعان حتى بشعارات ثورية ماركسية لتأكيد ذلك، وبكل انعدام للأمانة، فأكد ان ليس للعراقيين ما يخسروه إلا اغلالهم. وتجددت شعارات “ثورية” سبق ان اثبتت سطحيتها وضررها مثل “شلع قلع” و “لا حل إلا بحلها”، حتى ان رفع بعضها بحسن نية. نعم يمكن دائماً للوضع ان يصبح أكثر سوءاً، وهو ما حصل!
هذا يسهل علينا الإجابة على السؤال التالي:
هل من حق الناس ان تقلق وتطالب التظاهرات بتفسيرات لأفعالها وتوضيح لأهدافها قبل ان تدعمها؟
بدون شك! فما دامت الأمور يمكن ان تصبح أكثر سوءاً، ومادام الناس قد شاهدوا بأم اعينهم تظاهرات تبدأ “سلمية” لتنتهي بمجازر ورأوا قبل سنوات قليلة، دولا تتحطم وتنهار، وما زالت شعوبها تئن من الألم، فمن حقهم التام ان يقلقوا قلقا شديداً وان يتأكدوا من ان تظاهرات بلدهم لن تقود الى ذات النتيجة، خاصة وان الجهة التي تبين انها قادت تلك التظاهرات التدميرية، تتمتع بسلطة هائلة وتكاد تكون غير محدودة في بلادهم، وقد تم ضبطها تسعى الى تحطيمهم من خلال خلق ودعم داعش وتجهيزها والدفاع عنها وإنقاذ قياداتها. لكننا بدلا من ذلك، نرى انكاراً من قبل المتظاهرين ومن يدعمهم اعلامياً لهذا الحق، بل واستنكاراً حتى على طرح الأسئلة وتوجيه الغضب والاتهامات بوجه من يطرحها، وكأن كل من لم يشارك في التظاهرات ويدعمها ليس عراقيا وليس له حق في العراق أو أن يبدي رأياً فيما يجري فيه.
كل تظاهرة تسعى لكسب تأييد أكبر عدد ممكن من الناس، فهل اهتمت تظاهرات تشرين بذلك؟
الغرور المخيف الذي تم نفخه بالمتظاهرين ومؤيديهم، جعلهم يشعرون انهم ليسوا فقط فوق الحكومة، وانما ايضاً فوق الشعب الذي يدعون انهم جاءوا من اجله، كما بينت الكثير من تصرفاتهم الخرقاء. وقد اخترعت شعارات لتغطية الخلل الهائل في المعرفة والوعي وانعدام القيادة وتحويلها الى أمور إيجابية في اذهان المتظاهرين بعبارات منمقة مثل: “الإزاحة الجيلية” وتم كيل المديح لـ “عفوية” التظاهرات واعتبرت لفترة طويلة مبررا لعدم وجود قيادة معلنة لها ولا اهداف محددة واكتفي بعبارات رنانة فارغة من المعنى مثل “الوعي قائد”.
وكمثال على حالات نفخ الغرور، أني حين اعترضت بأن لا أحد يفهم ما يريدون، اجابت احدى الداعمات: انكم لا تستطيعون فهمهم فهم فوق فهمكم وامكانياتكم! هذا رغم أن أفضل من في قيادات التظاهرات، لم يقدم أية أهداف أو خطط للوصول اليها أو حتى كلام معقول بالحد الأدنى، إلا حين يتحدث بشكل عام غير محدد!
وفي نقاش آخر قال أحد الشباب: “كل من عمره فوق 40 عام لا فائدة منه، لأنه تربى على الخوف والمذلة”! صحيح انها امثلة فردية لكنها كانت تعبر عن روح المتظاهرين والغرور الفارغ الذي نفخ فيهم وفي دورهم وقدراتهم، وما انتجه ذلك من صلافة قبيحة، تعدت التعبيرات الفردية إلى الشعارات، وقد اشتهر شعار كتب على لافتة كبيرة: “ضراط لحد يضرط.. نريد وطن”..
هذه الصلافة افقدت التظاهرات أي شعور بالمسؤولية تجاه افعالها، فأعطت الناس انطباعا سيئا وكسبت عداء الكثيرين منهم. وقد وصف جهاد النقاش ذلك بـ “تفشي ثقافة الحرق، وقطع الطرقات، وتعطيل المدارس، وغلق الدوائر، واستخدام القنابل الحارقة (المولوتوف)، والسكاكين، وسب الرموز الدينية، والذات الإلهية، والتنمر على الموظفين، وإهانة المعلمين، ونشاط الشواذ، الاستهزاء بالحشد، ونعت جمهوره بالذيلية، والعملاء، بل وإحراق مقراته، مع توالي الحملات المطالبة بحله، وإنهاء وجوده، والفرح بقصف مخازنه، والرقص لمقتل قادته، ونعت جنوده بأبناء الخايبة…”
هل التظاهرات مسؤولة عن أفعال بعض “المندسين” فيها؟
نعم! ففي كل تظاهرات العالم الحقيقية، ينبري فريق كبير منها لضمان توجه التظاهرات بالاتجاه الصحيح وعدم الإساءة اليها. وكل تظاهرة تعي ان هناك من قد يخترقها ليسيء اليها، لذلك فهي تسارع فوراً للقبض على هؤلاء قبل ان يلحقوا إعطاء انطباع سيء عن التظاهرة. اما في تظاهرات تشرين، فقد بدأت برفض فكرة احتمال ان يندس بها أحد، وكانت خطابات السخرية ممن يتحدث عن المندسين هي السائدة، ثم حين تفاقمت الإساءات صار داعمي التظاهرات هم من يؤكد وجود المندسين، وفي مراحلها الأخيرة كان هؤلاء هم من يسيطر عليها تماما، ولم يعد هناك وجود لأشخاص يمكن للمرء ان يحترمهم، فصار هؤلاء لندرتهم هم “المندسون” بين جموع المشبوهين والمخربين والمجرمين في التظاهرات
هل كان الوعي قائدا؟
جهاد النقاش، أوضح باختصار أن “القائد” للتظاهرات لم يكن “الوعي” الوهمي، بل جهات من لحم ودم، فكتب: “كان للتمويل الذي اعترف به أبرز الناشطين مؤخرا (كمنتظر الزيدي، وشجاع الخفاجي، وأحمد الأبيض) دورا كبيرا في تسيير المشهد، ورسم خطوط تصعيده، ودعم أعمال الشغب فيه…
مال التحريض كان خليجيا، والتخطيط أمريكيا، وإلى عهد قريب بقيت اللقاءات تعقد في أربيل، لهذا لم نشهد عداءً لهذه الأطراف، وبقي المدونون ينفخون النار في مدن الوسط والجنوب، يبثون الكذب ويؤلبون الشباب المندفع، وكم من مجزرة كانت محض افتراء، كمجزرة كربلاء، وكم من مرقد أريد حرقه بذريعة مختطفين وهميين، كمرقد الحكيم في النجف.”
هل يبرر الشهداء كل هذا الخلل وهل يعطي الحق للتظاهرات بالمطالبة بالدعم غير المشروط؟
خلال فترة التظاهرات، استخدم رمز الشهداء من أجل عدة اهداف:
1- إظهار التظاهرات والمتظاهرين بمظهر الضحية لجلب التعاطف
2- إظهارهم كأعداء للحكومة وهذا يكسبهم تعاطفا إضافيا عند الشارع العراقي الكاره لها
3- إظهارهم للجماهير كأبطال لا يخافون الموت، وحث الشجاعة بينهم بالفعل
4- إدامة التظاهرات، بتخوين من ينسحب منها، مثلا بشعار “الدوام خيانة للشهداء”
5- إدامة التظاهرات وحمايتها من التساؤل عن جدواها من قبل المتظاهرين أنفسهم، من خلال ظاهرة نفسية معروفة بإشعار المتظاهرين أنهم “استثمروا” في التظاهرات، فيتعلقوا بها أكثر حتى لو لم يعودوا يرونها مفيدة
6- تبرير للعنف من جانب المتظاهرين، وتبرير للدعوة العلنية لحمل السلاح
7-تثبيت التظاهرات في وسائل الإعلام لتكون موضوع اهتمام الناس الأول والأخير
8- إسكات أي أصوات تطالب بالوضوح في اهداف واعمال التظاهرات، والمطالبة بدعمها بلا شروط
إذن هو من النتائج الفعلية ان الاستشهاد منح التظاهرات رخصة معنوية للتصرف بحرية وبدون إحساس بالحاجة لتفسير تصرفها، لكن هل الاستشهاد والضحايا يعطون مبررا منطقيا للدعم غير المشروط؟ طبعا لا
في الجزء الثاني من المقالة سنبدأ بالسؤال: “لماذا لم تدافع الحكومتان – عبد المهدي والكاظمي – عن نفسيهما بوجه تظاهرات تريد اسقاطهما واسقاط مصالح احزابهما؟
هذا السؤال وغيره من الملاحظات قد تكشف حقيقة التظاهرات وحقيقة الحكومات وحقيقة ما يجري بينهما للناس.
التظاهرات – ملف الأسئلة الأساسية
التظاهرات: لماذا لم تدافع الحكومة عن نفسها؟